قال الحافظ الذهبي، رحمه الله تعالى، في "السير"
(20/45):
«غلاة
المعتزلة و غلاة الشيعة و غلاة الحنابلة و غلاة الأشاعرة و غلاة المرجئة و غلاة الجهمية، و غلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا
و كثروا، و فيهم أذكياء و عباد و علماء، نسأل الله العفو و المغفرة لأهل التوحيد،
و نبرأ إلى الله من الهوى و البدع، و نحب السنة و أهلها، و نحب العالم على ما فيه
من الإتباع و الصفات الحميدة، و لا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، و إنما العبرة
بكثرة المحاسن» اﻫ.
قال أبو محمد: ثم قال الذهبي، رحمه
الله تعالى، في ترجمة أخرى (20/142) كلامًا نقيًّا: «فينبغي للمسلم أن يستعيذ
بالله من الفتن، و لا ---- بذكر غريب المذاهب لا في الأصول و لا في الفروع، فما
رأيت الحركة في ذلك تحصل خيرًا، بل تثير شرًّا و عداوة و مقتًا للصلحاء و
العُبَّاد من الفريقين، فتمسَّك بالسنة، و إلزم الصمت، و لا تخض فيما لا يعنيك، و
ما أشكل عليك فرده إلى الله و رسوله، و قف، و قل: الله و رسوله أعلم» اﻫ.
قال أبو محمد: قد تأملت هذه المذاهب
الموجودة، و هذه الجماعات الإسلامية، فتبين لي بوضوح أن السنة التي جاء بها الحبيب
المصطفى و كان عليها الصحابة و التابعون، تفرقت بين مذاهب المسلمين و لم تحزها
طائفة حالاً و قالاً دون غيرها، لكن منهم مقل و مستكثر، فالسَّعيد من قارب الحق و
أصابه، و بعكسه الآخر.
و قد بين لنا رسول الله، ، العاصم من
الفتن و مقياس الهدى، و لم يزكنا هملاً، فقال عليه الصلاة و السلام: «...و ستفترق
أمتي على ثلاث و سبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة» و في بعض الروايات: قيل من
هي يا رسول الله؟ قال:«من كان على مثل ما أنا عليه و أصحابي»، و لهذه الزيادة
شواهد، و بها قواها بعض أهل العلم، و قال ، «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم
الذين يلونهم»، و قد -----القرن الثالث في سنة 227 تقريبًا كما قال الحافظ بن حجر،
رحمه الله تعالى.
و قال، أيضًا، صلوات ربي و سلامه
عليه: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله ، و عثرتي آل
بيتي».
فقد دلت هذه الأحاديث على أن نهج
جمهور أهل القرون الثلاثة: الصحابة و التابعين و أتباع التابعين هو الحق الناصع،
فما أجمعوا عليه، أو قال به جمهورهم من مسائل الاعتقاد أو السلوك أو ما شابه ذلك
فهو السنة البيضاء النقية، ثم إن ذلك أيضًا أوضح و أبين في سيرة الهادي، صلوات ربي
و سلامه عليه، و سيرة جماهير الصحابة الكرام، رضي الله عنهم قبل حدوث الفتن و
التفرق في الأمة.
و الحديث الثالث بين أن العاصم من
الضلال هو التمسك بالقرآن الكريم، و بمنهاج آل البيت الكرام، عليهم السلام.
فإذا قلنا إن التمسك بالقرآن الكريم و
السنة المطهرة، بفهم الصحابة و العثرة الطاهرة، ثم التابعين للفريقين. ثم أتباع
التابعين، أي في جمهورهم، دون ما شذ به بعضهم و خالفه الجمهور أو بدَّعوه فيه
كالقدر و الإرجاء و الخارجية و غلو التشييع و النصب، أقول إذا قلنا إن ذلك هو منهج
السلامة و النجاة سنكون موافقين للصَّواب، و بهذا نزن كل من سيأتي بعد ذلك من
الفرق أو الجماعات.
إذا تبين هذا، علمنا أن هذا المنهج هو
الذي سماه علماؤنا بمنهج أهل السنة و الجماعة، و كان عليه أهل الحديث و الأثر، و
هو منهج واضح المعالم نظريًا و عمليًا في سائر أبوبه، و قد جمع المحاسن من
أطرافها، و كان أصحابه هم السواد الأعظم في القرون الثلاثة المفضلة و كلمتهم
مسموعة. و الملوك تهابهم، و هم الذين أسسوا علوم الإسلام، و مهدوا معالم الإيمان.
فلما كان زمن الخليفة المأمون
العباسي، و فتن المسلمين بالاعتزال، فصبر من صبر و افتتن من افتتن، ثم كان مقدم
أئمة المسلمين أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، و نصره الله بثباته و صموده، حدث ما
لم يكن في الحسبان.
و ذلك أن أهل السنة بدل أن يستغلوا
هذا النصر و يكملوا مسيرتهم و معركتهم ضد المبتدعة المخالفين لمحض السنة، انشغلوا
ببعضهم البعض في معركة (لفظي بالقرآن مخلوق) و (الوقف في القرآن) فبدع بعضهم بعضًا
و ضلل بعضهم بعضًا، بل لعلهم وصلوا إلى التكفير، و قد كان يمكن الرد على بعضهم
البعض باللين لا كردهم على المبتدعة الحقيقيين من معتزلة و جهمية و رافضة و خوارج،
الذين كثروا في ذلك الوقت، و إن لم يكونوا هم السواد الأعظم، و لا إليهم المرجع من
العامة.
و في هذا الوقت، أعني حولي سنة 240 و
ما بعدها، بدأ يظهر أناس من أهل السنة أرادوا الرد على المبتدعة بأصول كلامية، مع
عدم تمكنهم في السُّنة، و ذلك كعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب، و تبعه الحارث
المحاسِبي، فوقعوا في بدع حقيقية. و دخلهم التهجم و هم لا يشعرون حتى ظهر أبو
الحسن الأشعري و تاب من الاعتزال و انتحل السنة و انتمى في ذلك إلى أحمد بن حنبل،
لكنه كان عظيم الخبرة بعلم الكلام و مناهج أصحابه، قليل الخبرة بالسنة و الأثر.
فلما تكلم في الجمل الكبيرة أصاب الحق، لكنه أتي من ضعف خبرته بالسنة فأصَّل بعض
الأصول المنحرفة، دون أن يشعر، و فرح به أهل السنة لعظيم نصرته لهم و شدة حربه على
أعدائهم من المعتزلة و غيرهم، خاصة لمَّا أظهر "الإبانة عن مسائل
الديانة" و "رسالته لأهل الثغر" و "---الإسلاميين" فإنها
عظيمة النصر لأصول أهل الحديث و الأثر، و إمامهم أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه في
جنات النعيم.
و كلما طال الزمن بدأ أصحاب السنة
المحضة ينسحبون من الواجهة، و يبتعدون عن قيادة المسلمين، و في المقابل اجتهد
المبتدعة في نشر باطلهم، بل تأسست دول على أفكارهم فما دخل القرن الرابع إلاَّ و
قد سيطرة غلاة الشيعة على ---ليد بلاد المسلمين في شرق الأرض و غربها، و ساندهم
المعتزلة فكانوا لهم وزراء و قضاة، و ناظروا على باطلهم، فانتصب لهم أصحاب أبي
الحسن الأشعري، الذين زاد انحرافهم و بعدهم، مع مرور الزمان ، عن محض السنة، فزادت
الشقة بينهم و بين الذين حمل لوائهم في الغالب تلاميذ الإمام أحمد، رحمه الله
تعالى، حتى أصبحت عقيدة أهل السنة تسمى "العقيدة الحنبلية" مقابل
"الأشعرية".
و لا شك أنَّ جد و اجتهاد الأشاعرة
جعل الجيل الجديد يتأثر بهم و يرى أنهم بقواعدهم و كتبهم و ما أصلوه هم المنافحون
عن منهج أهل السنة، فمن أراد النجاة فليقل بمقالتهم، و هذا مع ما ظهر فيهم من
فقهاء كبار و عباد و زهاد، و مع البلاء الكبير الذي أبلوه في نصرة دين الله و
تبيين شريعته. و هذا معنى حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه: فهل بعد هذا الشر
من خير؟ فقال له رسول الله، ، «نعم، و فيه دخن» فقال: و ما دخنه؟ قال: «قوم يهتدون
بغير هديي و يستنون بغير سنتي، نعرف منهم و ننكر».
على أن الأشاعرة لمَّا ازداد
انحرافهم، فقد قابلهم أيضًا الحنابلة بانحراف آخر من الجهة الأخرى، فغلوا في أمور
و اشتطوا و تشددوا في أمور كان يمكنهم أن يسهلوا فيها، و قابلوا بدعًا ببدع أخرى .
نعم، و الله سبحانه و تعالى لا يزال
يغرس لدينه أنصارًا على السنة البيضاء يذبون عنها و ينصرونها، كما قال : «لا يزال
من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من كذبهم و لا من خالفهم حتى يأتي أمر الله
و هم على ذلك» رواه أحمد و الشيخان، ففي كل زمان كان من هذه الطائفة أناس، من فضل
الله تعالى و رحمته بالأمة، و ليس معنى هذا الحديث أن هذه الطائفة معها كل الحق،
لكن معناه أنها من أسعد الناس بمنهاج السلف، أي من أقربهم له في الجملة و الغالب،
و قد يكون بعض الحق عند غيرها ممن يحفظه الله بذلك.
و لأضرب على ذلك مثالاً.
في القرن السَّادس (500ﻫ- 600ﻫ)، و هو
الذي علق عليه الحافظ الذهبي، رحمه الله تعالى، في الكلام آنف الذكر الذي نكتب هذه
الخاطرة على ضوئه، تفرقت السبل بالمسلمين، فكانت عقيدة السلف بكامل أبوابها، دونما
بدعة و لا انحراف، عند جماعة من الحنابلة، و بعض الشافعية، و قلة قليلة من
المالكية و الظاهرية، و بالمقابل كان جماهير الشافعية و المالكية من محدثين و
فقهاء أشاعرة. كما أن عامة الأحناف كانوا إمَّا ماتريدية أو أشاعرة، و فيهم جماعة
وافرة من المعتزلة و الكرَّامية، و في الجميع عدد من المتصوفة.
و الشيعة كان جماعة منهم رافضة، و
فيهم آخرون زيدية، فيهم غلاة جارودية و آخرون بخلاف ذلك، و الجميع معتزلة في
عقائدهم.
و الناظر بإنصاف يجد التالي: الذين
ردوا بقوة على البدع في هذا الوقت، و صنفوا أكبر الكتب في التفسير و شرح السنة و
الحديث، و جاهدوا الأعداء في الثغور شرقًا أو مغربًا، و بهم بقي الإسلام و استمر
التوحيد، هم في الغالب من غير أهل السنة المحضة، لأن هؤلاء قد أصبحوا قلة بالنسبة
لغيرهم، و هذه دولة السَّلاجقة كانت شافعية أشعرية، كما أن عامة علماء المغرب
كانوا مالكية أشاعرة خاصة بعد دولة بني عبد المومن (الموحدين).
و هؤلاء الشيعة الزيدية في اليمن
كانوا من أشد الناس ردًّا على الباطنية ، و كذلك جماعة من المعتزلة لهم ردود قوية
على جماعة من الملحدين. مع ما حافظوا عليه من علوم آل البيت، عليهم السلام ، في
سائر أبواب العلم مما لم يحافظ عليه غيرهم، و هم العثرة الطاهرة. ثم إن التصوف في
هذا الوقت كان من عوامل تربية عامة المسلمين و تزكية نفوسهم و تحريضهم على محبة
الله و رسوله و الزهد في الدنيا و الجهاد في سبيل الله تعالى.
أقول: و كل ذلك من مقاصد الإسلام، و
كان هو منهج السَّلف، ثم أخذ كل بنصيبه منه، و لم تحز طائفة الحق كله حالاًّ و
قالاً.
نعم، أهل السنة المحضة في غالب أمرهم
لا ينكرون ما مع غيرهم من الحق، فهم قائلون به، لكن القائم به غيرهم فهذا الخير
الذي فيه دخن.
و المرء يمدح بما يقوم به من نصرة دين
الله و سنة رسوله ، فرُبَّ رجل له من نصرة الإسلام، أو نصرة السنة في أبواب ما لا
يقوم به غيره، من الغيرة على الدين و الذب عن حياض المسلمين، و هو واقع في العديد
من البدع، ما ليس لرجل سنِّي المعتقد، باردِ الغيرة قاعد عن نصرة الحق و أهله.
و بهذا مدح من مدح من العلماء و
الأمراء و العُبَّاد عبر التاريخ، و كان لهم قدم صدق عند المسلمين، مع ما واقعوه
من البدع. فإن الله سبحانه ما أرسل الرسل و أنزل الكتب إلاَّ لهذا، فأعظم الناس
سعيًا في نصرة دين الله تعالى و تعبيد المسلكين له أحبهم إليه جل و علا. و ذلك لأن
صاحب الغيرة و النصرة ما سَبَّل نفسه و استرخصها لله، إلاَّ لعظيم محبته و عبوديته
له، أمَّا صاحب العقيدة النظرية فلعله إنما قام بها لأنه اتفق له دولة تقول بها،
أو درس ذلك أو نشأ عليه فلم يعرف غيره. فتأمل هذا جيدًا، يفتح لك باب عظيم من
أبواب التوحيد و عبادة الله سبحانه. و قد قال سبحانه: ﴿ذلك و من يعظم شعائر الله
فإنها من تقوى القلوب﴾، و قال جل و علا: ﴿ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند
ربه﴾
و انظر إلى الرجل الذي قال لأولاده:
إذا أنا مت فاحرقوني ثم ذروا رمادي في الريح، فو الله لئن قدر الله علي لعذبني !!
فلما سأله الله عن ذلك، قال: يا رب حملني الخوف منك، فغفر الله له. هذا معنى
الحديث، و هو صحيح، فقد غفر الله له لعظيم خوفه منه، مع فرط ضلاله، فكيف بمن نصر
دين الله و ركب ذروة سنام الدين و والى في الله و عادى في الله، مع بدعته؟ !!
و اعلم أنه عند المحاققة، فليس في دين
الله تعالى أصول و فروع، بل كل من استفرغ وسعه و اجتهد لطلب الحق فإن أصابه فله
أجران، و إلاَّ فله أجر واحد، و السنة لم تفرق بين أصل و فرع، بل هذا من بدع
المتكلمين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، و نقل هذا ابن حزم عن جماعة من الصحابة
و التابعين، بل ذكر أنه اتفاقهم كما في "الفصل في الملل و النحل".
قال أبو محمد: و لننظر إلى ما عندنا
اليوم من فرق و جماعات في العالم أولاً، ثم في المغرب الأقصى، بلدنا هذا، ثانيًا،
لكن نطبق عليه ما أصلناه..
مقال مقتطف من كتاب [ذاكرة سجين مكافح]
مقال مقتطف من كتاب [ذاكرة سجين مكافح]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق